الشيخ محمد مصطفى شلبي عالم أزهري أصولي جليل، من أقدم أعضاء مجمع البحوث الإسلامية، تتلمذ عليه آلاف لا يحصون من الطلاب في الجامعات، منهم الأستاذ محمد سليم العوّا، الذي استمرت صحبته معه (38) عامًا، حتى وفاته عام 1418 هـ.

يتحدث الأستاذ العوّا عن كتابه المشهور "تعليل الأحكام: عرض وتحليل لطريقة التعليل وتطوراتها في عصور الاجتهاد والتقليد" وأن له قصة حكاها المؤلف في مقدمة الطبعة الثانية له سنة 1401 هـ، وحاصلها أن الشيخ استعرض موضوعات كثيرة ليختار منها موضوعًا مناسبًا لرسالة يتقدم بها لنيل درجة الدكتوراه (العالمية من درجة أستاذ)، فاستعصى عليه الاختيار، حتى كاد اليأس أن يتسرب إلى نفسه.

فترك التفكير في المسألة، وفوَّض أمره إلى الله، داعيًا إياه أن يهديه إلى ما يُذهب حيرته.

كان ذلك في أول شهر رمضان من سنة 1361 هـ، وقبل أن ينقضي الشهر رأى [في المنام] أنه دخل مكتبة كلية الشريعة، فوجد فيها حشدًا من الشيوخ والطلاب، وإذا بأمين المكتبة – وكان رحمه الله شيخًا وقورًا – يسرع إليه ويناوله كتابين، أحدهما مطبوع، والآخر مخطوط، ويقول له: خذ هذين الكتابين من مراجع رسالتك. فقال له الشيخ: إنني لم أختر موضوع رسالتي بعد. فقال: رسالتك في تعليل الأحكام!

يقول الشيخ: استيقظت بعد هذه الرؤيا وأنا في حيرة مما رأيت! هل هي رؤيا أم مجرد خاطر نفسي؟ وسرعان ما استبعدتُ الثاني؛ لأنني لم أكن أفكر في موضوع الرسالة، ولم يكن هذا الموضوع قد خطر ببالي من قبل... ثم يحكي رحمه الله باقي قصة الرسالة..

ويذكر الأستاذ العوا أن رسالته تلك (تعليل الأحكام) أول كتاب في تاريخ العلم الإسلامي يحمل هذا الاسم، وأنه أصبح مرجعًا لكل باحث في الأصول، وفي المقاصد، وفي سماحة الشريعة، وأصبح يشار إليه دون ذكر صاحبه، فيقال: صاحب "تعليل الأحكام"، ويقول الشيخ: وكأن ذلك أضحى لقبًا جديدًا لي!

قال التلميذ العوّا: ومن طريف قصة هذه الرسالة الذي لم ينشره شيخنا، ما حدَّثني به من أنه عندما قدَّمها إلى كلية الشريعة ليحدد موعدًا لمناقشتها، بقيت بين أيدي أعضاء اللجنة المكلفة بمناقشتها سنة أو تزيد، ولم يكن ذلك معهودًا آنذاك، وأنهم اجتمعوا مرات عدة، وكان رأي غالبيتهم أن تردَّ الرسالة إلى صاحبها، ورأي أقليةٍ منهم، أو بالأحرى واحدٍ فردٍ منهم، أنها رسالة يجب أن تُجاز، وأن عليهم أن يكتبوا أسبابًا مقنعة لردِّها.

فلما لم يجدوا شيئًا يسوِّغ ما يريدون، نوقشت الرسالة، ونالت أول تقدير (امتياز) في تاريخ كلية الشريعة. وخرج من الكلية محمولًا على أعناق الطلبة، بعد أن استمرت مناقشته ساعات طويلة!

قال الأستاذ العوّا: وقد شرَّقت هذه الرسالة وغرَّبت، منسوبة إليه أحيانًا، ومنتحلة أحيانًا أخرى، في جرأة بلغت أن تُنتحَل كاملة بعنوانها! في إحدى كبريات الجامعات داخل مصر!

(ذكره الأستاذ العوا في كتابه: التعليل بالحكمة، الذي أصدرته مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي بلندن عام 1436 هـ، ص 75 فما بعد)